كان يوم الخميس الماضي من أكثر أيام انتفاضة الشعب المصري إثارة. بدأ بالبيان الأول للجيش ثم توالت الأخبار عن أن مبارك سيتنحى ليريح ويستريح. بعدها صارت الناس تسأل: الريس فين؟ بعض قال انه في شرم الشيخ وبعض قال بالإمارات وفريق أكد انه بألمانيا. ثم جاء خبر أن الرئيس سيلقي خطابا مهما. وانتظرنا الخطاب.
دام الانتظار ساعات طويلة وتوقعنا خيرا، على قاعدة "كل تأخيرة وبيها خيرة". واقبل الليل وظهر الرئيس. وعلى العكس من الشد الدرامي الذي لف العالم بأجمعه، انتظارا للمعجزة، جاء الخطاب شاحبا بطيئا ومملا بحيث جعلني العن ابو الساعة السودة التي دفعتني لانتظاره. ومن أول جملة بالخطاب فهم المصريون أن"رئيسهم متنّح"، كما يقول المصريون. وكالعادة بعد كل خطاب للرئيس، عاد ميدان التحرير يزلزل الأرض بصيحة: ارحل.. ارحل.
ذكرتني تساؤلات الناس عن مكان الرجل، باليوم الذي نهض فيه من تحت الكراسي، لحظة اغتيال السادات، وهو يصرخ مذعورا: الريس فين؟ أجابه ضابط كان بقربه: لقد مات. فإذا كان مبارك لا يعرف أين الرئيس، وهو ممدد على بعد اقل من متر واحد عنه، فكيف سيعرف ماذا يريد الشعب الثائر؟ اعتقد انه ليس بمصر. أو انه هناك لكنه لا يسمع ولا يرى. وفي الحالتين انه ليس هناك.
ذكرني خطابه بحكاية عراقية عن القرية كان أهلها يستعدون لحصاد الحنطة، و فاجأهم خبر أن الفيضان قادم وسيغرق مزارعهم. تحزم الرجال والنساء وصاروا يرسمون خططاًًًًًًًًًًًً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كانت من بينهم أسرة تضم أربعة أولاد وأختهم، قد مات والدهم ويعيشون مع أمهم. صاروا يتباحثون حول أفضل وسيلة لإنقاذ حنطتهم. وحين اتفقوا على طريقة للحل بعد حوار طويل، قالت الفتاة لامها: وانتي شنو رايج يمه؟ ردت الأم التي كان بالها منشغلا: "والله يمه أنا حايرة بزرعات احميّد. خطية ما عنده احد". افه! صاح كبيرهم: "طلعت أمنا عاشكه واحنا ما ندري".
مثل مبارك تماما. الأرملة العاشقة في واد وأولادها في واد. وصاحبنا، أيضاً، في عالم وشعبه في عالم آخر. الإرادة الشعبية أسقطت الشرعية عن نظامه، وهو ما يزال يتحدث عن الشرعية ويقرأ على الشعب قطعة إنشاء مثل تلك التي كنا نقدمها في دروس اللغة أيام الابتدائية.
خطاب الرئيس الأخير أعاد في ذاكرتي مسلسلا سوريا كان يظهر به "بدري أبو كلبجة" مدير السجن، بعد ما أحيل على التقاعد، وهو يفتح الشباك لـ"لغوار الطوشة" لعله يهرب. لكن غوار كان يغلق الشباك بكل ما أوتي من قوة. وحين سأله غوار عن السبب، نزلت الدموع من عينيه وأجاب: إذا تقاعدت، فبمن سأتحكم يا غوار؟
أعاذنا الله وإياكم من مرض الرغبة بالتحكم برقاب الناس