الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فلقد أنزل الله القرآن الكريم هداية ورحمة وبياناً وحجة وذكراً وموعظة، أنزله ليعرف الناس به ربهم وليعبدوه تعالى العبادة الحقة التي خلقوا لها والتي أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه.
أنزله ليؤخذ كلاً لا بعضاً، ليؤخذ مُعتقداً وسلوكاً وعبادة ومعاملة وتحاكماً بل خلقاً وآداباً.
ولقد أنزل الله تعالى في هذا القرآن سورة عظيمة المعنى كبيرة القدر تضمنت حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة المترابطة المتشادة فيما بينها (( أَلالَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ )) .
تلكم سورة الحجرات المسماة بسورة الآداب والتي رغم قصرها النسبي نودي المؤمنون فيها بخمس نداءات، نودوا فيها بأطيب الأسماء والأوصاف وأحبها إلى مسامعهم وأقواها لمساً لمشاعرهم واستجابة لقلوبهم.
نداءات تستحق أن تصيخ لها الآذان وأن تعقلها القلوب وأن تتحرك بمقتضاها الجوارح حسبة لله سبحانه وسيراً على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله سبحانه وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِه )) (( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا )).
ولنأخذ في هذه العجالة التذكير بثلاث موضوعات أو ثلاثة آداب.
آداب عظمى تلزم للمسلمين جميعاً جماعات وأفراداً مسئولين أو غير مسئولين ولا سيما في مثل هذا العصر الذي اختلط حابله بنابله، ثلاثة مما تلا هذه النداءات الخمسة من أوامر أو نواهٍ، فما من نداء مثل هذا إلا ويتلوه أمر بخير أو نهي عن شر كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
أول هذه الأمور ما تضمنه قوله سبحانه : (( إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا )) أي: تثبتوا في خبره، محصوه تمحيصاً بحق وعدل لئلا يكون كاذباً أو مخطئاً فيجركم ذلك إلى أن تصيبوا قوماً بجهالة.
" قوماً " هنا نكرة تعم الذكر والأنثى والصالح والطالح عدلاً بين الناس وإحساناً إليهم وإحتراماً لدمائهم وأموالهم وأعراضهم، فتصبحوا على ما فعلتم من اعتماد على قبول خبر الفاسق فيهم نادمين معرضين للوعيد في قول الله سبحانه : (( والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وإثْماً مُّبِيناً )).
فليتق الله المسلم ولا سيما المسئول وليأخذ بهذه الآداب " فتبينوا " ليتق الله من مطيته في النَّيل من الأبرار روايات وأخبار الفجار وليتذكر أن الإنسان كما يدين يدان - أي: يجازى بمثل عمله.
ثاني هذه الأمور وثالثها: ما تضمنه قوله سبحانه: (( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا )).
والظن الذي أمرنا هنا باجتنابه هو بمعنى التهمة التي لا يعرف لها أمارات صحيحة ولا أسباب ظاهرة ولا سيما إن كان المظنون به من أهل الأمانة ظاهراً والستر والصلاح وهو أي الظن بهذا الاعتبار حرام لقول سبحانه : (( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ )).
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) .
ويشتد تحريمه ويعظم إثمه إذا جرّ الظان للتجسس على المظنون به التجسس الذي نهينا عنه بقول الله سبحانه : (( ولا تَجَسَّسُوا )) وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تجسسوا ولا تحسسوا ) أي: لا يبحث أحدكم عن عيوب وعورات أخيه .
يروى عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ) .
وفي كتاب أبي داود عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم ) .
وكفى هذه الفعلة قبحاً أن صاحبها كالذباب لا يكاد يقع إلا على المستقذرات والمنتنات والمستقبحات ذوقاً وعرفاً بل وشرعاً.
وكما يشتد تحريم الظن السيء ويعظم إثمه إذا جر الظان للتجسس على المظنون به فإنه يشتد ويعظم ويقبح أكثر وأكثر إذا أدى إلى نقل الظان عن المظنون للغير قولاً أو فعلاً أو أمر يشينه.
ولا سيما عند من بيده حول أو طول من الناس لارتكاب جريمة عظمى وداهية كبرى، جريمة وداهية النميمة المعرّفة من العلماء أنها نقل كلام شخص لآخر على وجه التحريش والإفساد وأنها محرمة بإجماع أهل العلم لما جاء فيها من نصوص ولما فيها من إفساد وفساد.
ولا جرم، فلكم جرت من ويلات وأفسدت من صلات وكشفت من عورات.
كم بذرت وتبذر من بذور للشحناء وأرست من قواعد للعداوة والبغضاء، كم خربت من بيوت عامرة وفرقت بين أسر مجتمعة وأزهقت من أرواح بريئة، ودرءاً لفسادها عن الأمة وحماية للأسرة المسلمة من آثارها جاءت نصوص الكتاب والسنة بتهديد ووعيد مرتكبيها ومستقبليها.
يقوله سبحانه: (( ولا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ )) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة نمام ) متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بل إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ) متفق عليه.
فاتقوا الله إخوة الإسلام واحذروا داء النميمة والوشاية الداء العضال المفرق بين الأحبة الباغي للبرآء العيب.
احذروه فإن إثمه كما سمعتم آنفاًً مركب من عدة آثام؛ إثم الظن السيء أولاً ثم إثم التجسس ثانياً ثم إثم النقل ثالثاً.
وإن تلاها الرابع وهو أخذ الأجر على ذلك كانت طامته، لأخذه الأجر على إفساد ذات البين التي أمر الله أن تصلح يقول سبحانه : (( وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ )) والذي لا يقل حرمة عن حلوان الكاهن ومهر البغي وثمن الكلب.
رحماك اللهم يا رب، ولا حول ولا قوة إلا بك نستغفرك اللهم ونتوب إليك