يقول شيخنا رحمه الله تعالى:
فمن الأحاديث المعروفة الثابتة التي تؤصل ماذكرت – وقد اشرت إليها آنفا – حديث الفرق الثلاث والسبعين ، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام : (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )) قالوا ماهي يا رسول الله ؟ قال : ((الجماعة )) وفي رواية : ((ما أنا عليه وأصحابي)) .
فنجد أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم يلتقي تماما مع الآية السابقة : ((ويتبع غير سبيل المؤمنين)) .
فأول ما يدخل في عموم الآية : هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم .
إذ يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله : (( ما أنا عليه ... )) ،
- مع أن ذلك قد يكون كافيا في الواقع للمسلم الذي يفهم حقا المتاب والسنة – ولكنه عليه الصلاة والسلام يطبق تطبيقا عمليا قوله سبحانه وتعالى في حقه صلى الله عليه وسلم انه ((بالمؤمنين رؤف رحيم)) .
فمن تمام رأفته وكمال رحمته بأصحابه وأتباعه أن أوضح لهم صلوات الله وسلامه عليه أن علامة الفرقة الناجية : أن يكون أبناؤها وأصحابها على ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام ، وعلى ما كان عليه أصحابه من بعده .
وعليه فلا يجوز أن يقتصر المسلمون عامة والدعاه خاصه في فهم الكتاب والسنه على الوسائل المعروفه للفهم ، كمعرفة اللغه العربيه ، والناسخ والمنسوخ ، وغير ذلك ، بل لابد من أن يرجع قبل ذلك كله الى ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنهم – كما تبين من آثارهم ومن سيرتهم – أنهم كانوا أخلص لله عز وجل في العبادة ، وأفقه منا في الكتاب والسنة الى غير ذلك من الخصال الحميده التي تخلقوا بها ، وتأدبوا بآدابها .
ويشبه هذا الحديث تماما – من حيث ثمراته وفائدته – حديث الخلفاء الراشدين المروي في السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه ، قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها الدموع كأنها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله ! قال : ((أوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ...)) وذكر الحديث.
والشاهد من هذا الحديث ، هو معنى جوابه على السؤال السابق ، إذ حض عليه الصلاة والسلام أمته في أشخاص أصحابه أن يتمسكوا بسنته ، ثم لم يقتصر على ذلك بل قال : (( وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) .
فلا بد لنا – والحالة هذه – من أن ندندن دائما وأبدا حول هذا الأصل الأصيل ؛ إذا أردنا أن نفهم عقيدتنا ، وأن نفهم عبادتنا ، وأن نفهم أخلاقنا وسلوكنا .
ولا محيد عن العودة الى منهج سلفنا الصالح لفهم كل هذه القضايا الضرورية للمسلم ، حتى يتحقق فيه – صدقا – أنه من الفرقه الناجية .
ومن هنا ضلت طوائف قديمة وحديثة حين لم يتنبهوا إلى مدلول الآية السابقة ، وإلى مغزى حديث سنة الخلفاء الراشدين ،و كذا حديث افتراق الامة ، فكان أمرا طبيعيا جدا أن ينحرفوا كما انحرف من سبقهم عن كتاب الله ،وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومنهج السلف الصالح .
ومن هؤلاء المنحرفين :الخوارج قدماء ومحدثين .
فإن أصل فتنة التكفير في في هذا الزمان ، - بل منذ أزمان – هو آية يدندنون دائما حولها ؛ ألا وهي قوله تعالى : (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فؤلئك هم الكافرون )) ، فيأخذونها من غير فهوم عميقة ، ويوردونها بلا معرفة دقيقة .
ونحن نعلم أن هذه الآية الكريمة قد تكررت وجاءت خاتمتها بألفاظ ثلاث وهي : ((فؤلئك هم الكافرون)) ، ((فؤلئك هم الظالمون )) ، ((فؤلئك هم الفاسقون)) .
فمن تمام جهل الذين يحتجون بهذه الآية باللفظ الأول منها فقط : ((فؤلئك هم الكافرون )) : أنهم لم يلموا على الأقل ببعض النصوص الشريعة – قرآنا أم سنة – التي جاء فيها ذكر لفظة (الكفر) فأخذوها – بغير نظر على أنها تعني الخروج من الدين ، وأنه لافرق بين هذا الذي وقع في الكفر ، وبين أولئك المشركين من اليهود والنصارى وأصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام .
بينما لفظة الكفر في لغة الكتاب والسنة لا تعني – دائما – هذا الذي يدندنون حوله ، ويسلطون هذا الفهم الخاطئ المغلوط عليه .
فشأن لفظة ((الكافرون)) – من حيث أنها لا تدل على معنى واحد – هو ذاته شأن اللفظين الآخرين – ((الظالمون)) و ((الفاسقون)) ، فكما أن من وصف انه ظالم أو فاسق لا يلزم بضرورته ارتداده عن دينه ، فكذلك من وصف بأنه كافر ؛ سواء بسواء.
وهذا التنوع في معنى اللفظ الواحد هو الذي تدل عليه اللغة ، ثم الشرع الذي جاء بلغة العرب – لغة القرآن الكريم - .
فمن أجل ذلك كان الواجب على كل من يتصدى لإصدار الأحكام على المسلمين – سواء كانوا حكاما أو محكومين – أن يكون على علم واسع بالكتاب والسنة ، وعلى ضوء منهج السلف الصالح .
والكتاب والسنة لايمكن فهمهما – وكذلك ما تفرع عنهما – إلا بطريق معرفة اللغة العربية وآدابها معرفة دقيقة .
فإن كان لدى طالب العلم نقص في معرفة اللغة العربية ، فإن مما يساعده على استدراك ذلك النقص الرجوع الى فهم من قبله من الأئمة والعلماء ، وبخاصة أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية .
ولنرجع الى الآية : ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فؤلئك هم الكافرون )) : فما المراد بالكفر فيها؟ هل هو الخروج عن الملة ؟ أو أنه غير ذلك ؟
فأقول : لابد من الدقة في فهم هذه الآية ، فإنها قد تعني الكفر العملي ؛ وهو الخروج بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام .
ويساعدنا في هذا الفهم حبر الأمة وترجمان القرآن ، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ؛ الذي أجمع المسلمون جميعا – إلا من كان من تلك الفرق الضالة – على أنه إمام فريد في التفسير فكأنه طرق سمعه يومئذ ما نسمعه اليوم تماما من أن هناك أناسا يفهمون هذه الآية فهما سطحيا ، من غير تفصيل ، فقال رضي الله عنه : ( ليس الكفر الذي تذهبون إليه ) ، و : (إنه ليس كفرا ينقل عن الملة ) و : ( هو كفر دون كفر ) .
ولعله يعني بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين ، و فعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين . فقال : ليس الأمر كما قالوا ، أو كما ظنوا ، إنما هو كفر دون كفر .
هذا الجواب المختصر الواضح من ترجمان القرآن في تفسير هذه الآية هو الحكم الذي لا يمكن أن يفهم سواه من النصوص التي أشرت إليها قبل .
ثم إن كلمة (الكفر) ذكرت في كثير من النصوص القرآنية والحديثية ، ولا يمكن أن تحمل – فيها جميعا – على أنها تساوي الخروج من الملة . من ذلك مثلا الحديث المعروف في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) . فالكفر هنا هو المعصية ، التي هي الخروج عن الطاعة ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم – هو أفصح الناس بيانا – بالغ في الزجر ، قائلا (وقتاله كفر ) .
ومن ناحية أخرى ، هل يمكن لنا أن نفسر الفقرة الأولى من هذا الحديث – (سباب المسلم فسوق) – على معنى الفسق المذكور في اللفظ الثالث ضمن الآية السابقة : ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )) ؟
والجواب : أن هذا قد يكون فسقا مرادفا للكفر الذي هو بمعنى الخروج عن الملة ، وقد يكون الفسق مرادفا للكفر الذي لا يعني الخروج عن الملة ، وإنما يعني ما قاله ترجمان القرآن أنه كفر دون كفر .
وهذا الحديث يؤكد أن الكفر قد يكون بهذا المعنى ؛ وذلك لأن الله عز وجل قال : ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلو التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله )) . إذ قد ذكر ربنا عز وجل هنا الفرقة الباغية التي تقاتل الفرقة المحقة المؤمنة ، ومن ذلك فلم يحكم على الباغية بالكفر ، مع أن الحديث يقول : (وقتاله كفر) .
إذا فقتاله كفر دون كفر ، كما قال ابن عباس في تفسير الآية السابقة تماما .
فقتال المسلم للمسلم بغي واعتداء ، وفسق وكفر ، ولكن هذا يعني أن الكفر قد يكون كفرا عمليا ، وقد يكون كفرا إعتقاديا .
ومن هنا جاء هذا التفصيل الدقيق الذ تولى بيانه وشرحه الإمام – بحق – شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله ، وتولى ذلك من بعده تلميذه البار ابن القيم الجوزية ، إذ لهما الفضل في التنبيه والدندنة على تقسيم الكفر الى ذلك التقسيم ، الذي رفع رايته ترجمان القرآن بتلك الكلمة الجامعة الموجزة ، فابن تيمية يرحمه الله وتلميذه وصاحبه بن القيم الجوزية : يدندنان دائما حول ضرورة التفريق بين الكفر الإعتقادي والكفر العملي ، و إلا وقع المسلم من حيث لا يدري في فتنة الخروج عن جماعة المسلمين ، التي وقع فيها الخوارج قديما وبعض أذنابهم حديثا .
وخلاصة القول : إن قوله صلى الله عليه وسلم (وقتاله كفر) لا يعني – مطلقا - الخروج عن الملة .
والأحاديث في هذا كثيرة جدا ، فهي – جميعا – حجة دامغة على أولئك الذين يقفون عند فهمهم القاصر للآية السابقة ، ويلتزمون تفسيرها بالكفر الاعتقادي .
فحسبنا الآن هذا الحديث ؛ لأنه دليل قاطع على أن قتال المسلم لأخيه المسلم هو كفر ، بمعنى الكفر العملي ، وليس الكفر الاعتقادي .
فإذا عدنا الى (جماعة التكفير) – أو من تفرع عنهم - ، وإطلاقهم على الحكام - ، وعلى من يعيشون تحت رايتهم بالأولى ، و ينتظمون تحت إمرتهم وتوظيفهم – الكفر والردة ، فإن ذلك مبني على وجهة نظرهم الفاسدة ، القائمة على أن هؤلاء ارتكبوا المعاصي فكفروا بذلك .
ومن جملة الأمور التي يفيد ذكرها وحكايتها : أنني التقيت مع بعض أولئك الذين كانوا من (جماعة التكفير) ثم هداهم الله عز وجل
و للحديث بقية بإذن الله مع حوار شيق جدا مع شيخنا محمد ناصر الدين الألباني ومع هؤلاء الخوارج ونرى حججهم وكيف يرد شيخنا على هذه الشبه بالأدله من الكتاب والسنة المطهرة بإذن الله تعالى قريبا
دمتم بخير