المسامحة إذا كانت من الطرف الأضعف فهي ضرب من الواقعية ، وإذا كانت من الطرف الأقوى فهي محض شفقة .. المسامحة متعدية .. مصدر لفعل ينصب مفعولاً به .. ثمة فاعل ومفعول به ضمن علاقة تراتبية ، تنحو تجاه مفهوم ما للهيمنة أو ما نسميه العفو عند المقدرة ، لكن التسامح فكرة لازمة فعلها لا ينصب ولا يتأرجح بين الواقعية والشفقة .. التسامح علاقة متوازنة أساسها الحوار والتضاد .. والعفو حين يكون قيمة أخلاقية تستقي جذورها من الطبع الذي يؤمن تلقائياً بفكرة الضعف الإنساني والهوى والمزاج الذي ينتمي إلى حرية الاختيار .. أجمل ممكنات البشر المنتمين إلى جمال التجاور وطاقات التداول الموضوعي بين أطراف الحوار الذي كلما اختلفوا كلما ازدادوا التصاقاً وإثراء لمعنى أن نكون معاً في جماعات عمل تكد ضمن المشترك ، وتشحن الاختلاف بالحوار من أجل إنتاج المعرفة التي لا تتقدم إلا بقدرتنا على استيعاب الأمور كما هي ، ومن ثم الذهاب في تحليل نواميس اختلافها .. التسامح مرتبط بالحضارة وبالسلام .. ومحك لحسن معالجة المعرفة وتوليد الأسئلة الخصبة .. البعض يربط توفر هذه الصفة بالأصل الوراثي ويجعلها بذلك في إطار قدرية جينية لا يمكن التدخل فيها ، والبعض يربطها بخصائص التربية والوسط الاجتماعي .. والبعض بالبيئة والمناخ والبعض بتداخل متشابك من عديد الأنساق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي في مجملها يمكن أن تنتج عقلا قادراً على التسامح ، أو بالأحرى طبيعته التسامح .. ومهما كانت العوامل منفردة أو متشابكة ، فنحن أكثر الناس حاجة لهذه القيمة ، وهو مطلب لا يأتي ضمن الترف الأخلاقي فحسب ، ولكنه حاسم في قدرتنا على الحوار والتعايش ومن ثم النهضة ، بكل ما تحمله هذه الأخيرة من ثقل معرفي وتاريخي في أذهاننا .. التسامح أساس المجتمعات المدنية وأساس الديمقراطية الاجتماعية التي لا يمكن أن تبنى ديمقراطية سياسية إلا على أرضيتها الراسخة .. بالتسامح يمكننا أن نتواصل ضمن لغة العصر ، ويمكننا أن نبني حواراً ضمن شرطه المعرفي .. يمكننا أن نراكم الخبرة وأن ننظر قدماً ولا نلتفت إلى الخلف إلا لنرى المسافة التي قطعناها ، التسامح إحدى نتاجات ترقي الإنسان وتمدنه وليس خياراً نقرره في أي وقت ، وليس خطة اقتصادية نسحبها من أحد الأدراج لنطبقها على الواقع ، وليس هبة إلهية نرفع أيدينا لها بالدعاء ، لكنه آلية معرفة لا تعرف الإطلاق والنهائي ، ومران طويل نتعلم من خلاله كيف نعمل معاً رغم اختلافنا وكيف ننزل المطر من قوس قزح المتعدد الألوان .. كيف يكون للاجتهاد أجر حتى وإن كان خطأ ، وكيف نرى الوطن بديلاً للقبيلة ، والإنسانية مآل كل قومية أو أديان تبحث عن جوهرها ومساحتها .. كيف نوقف المقصلة حتى وإن كانت بعيدة عن رؤوسنا ، وكيف نوقف المقص وإن كان بعيداً عن أوراقنا ، وكيف نتفق في ذروة اختلافنا ، وكيف نصنع من الألوان كرنفال الحياة التي لا تكون إلا بنا وكما نحن حشد من الأهواء والرؤى والآراء والأفكار …