الذكاء الموسيقي

الذكاء الموسيقي

***

في مطعم إحدى فنادق الخمسة نجوم كنت وصديقي وابنه الصغير ذو الأربع سنين نتناول وجبة عشاء خفيفة في وقت المساء .. كان الجو ساحراً وجميلاً .. فالإضاءات هادئة .. والشموع تتراقص على الماء بشكل رائع .. بينما الآخرين منشغلون ببعضهم ولا تسمع منهم سوى الحديث العذب الهامس .. !

أثناء ذلك دخل رجل بكامل أناقته يخطو بإيقاع إلى منصة قد هيئت له .. لم أكن حينها منتبهاً لذلك لو لا أن صديقي لفت انتباهي وقال لي: انظر !

نظرت فإذا به يتوسط المنصة ويتناول آلة ( العود ) .. ويضبط الأوتار والصوتيات والمايكروفون وبدأ يعزف بكل مهارة وهو باسم المحيا .. ويتنقل بنظراته على وجه الحاضرين .. كما يتنقل بين مقامات العزف.

بدأ الجميع بالتجاوب معه ومبادلته بنظرات الإعجاب .. وتأججت المشاعر .. وطربت الأرواح واعتلت التصفيقات الحارة مع كل معزوفة ينهيها ..

لكن السؤال الذي دفعني للقراءة والبحث هو:

ما الذي جعل الحاضرين يتجاوبون مع هذا العازف الماهر .. ؟

فوجدت أنه ( الحس الموسيقي والنغمي والإيقاعي .. سمّه ما شئت ) الموجود في كيان هذا الإنسان .. !

***

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

في وقت مبكر خرج العالم الأمريكي هاورد جاردنر بكتاب عنوانه: ( أطر العقل ) عام 1983م .. وضع فيه نظرية تربوية رائعة هي:

نظرية الذكاء المتعدد Multiple Intelligences

والتي ذكر فيها أن ذكاءات الإنسان سبعة هي:

(1) الذكاء اللغوي : وهؤلاء هم الشعراء .. والأشخاص المتميزين بجودة الكتابة .. أو فن الإلقاء .. أو الخطاب الجماهيري والإقناع والتأثير.

(2) الذكاء المنطقي : هم علماء الفيزياء والرياضيات والإحصاء والمعادلات الذين يتكلمون بلغة المنطق والأرقام، وكذلك مبرمجي لغات الحاسب.

(3) الذكاء المرئي: هم الفنانين التشكيليين والرسامين وكل المهتمين بأعمال الفن المرئي من إخراج أفلام وعمارة وهندسة .. الخ.

(4) الذكاء الحركي: هم نجوم الرياضة والممثلين ومحطمي أرقام غينيس في ألعاب الحركة .. والهواة .. الخ.

(5) الذكاء الذاتي: هم الفلاسفة وواضعي النظريات والباحثين الذي يعرفون قدرات ذاتهم ويجيدون التعامل معها والاعتماد عليها لإبراز قدراتها وإبداعاتها.

(6) الذكاء الاجتماعي: وهؤلاء هم المعالجين والمستشارين والقادة الذي يجيدون فنون التعامل مع الآخر باقتدار ..!

(7) الذكاء الموسيقي: أما هذا الذكاء ـ وهو محور موضوعنا ـ فيتميز به حفظة القرآن والمنشدين والملحنين والمطربين والعازفين .. ولديهم القدرة على الاستماع للأصوات المختلفة ، والإحساس بالإيقاعات والطبقات المختلفة للصوت ، وإدراك ما تتضمنه هذه الأصوات من معلومات .. إنه ذكاء المشاعر !

لعل البعض له نظرة شرعية تمنع قبوله بمصطلح ( موسيقى ) .. لذا يمكنه القبول بكلمة ( إيقاع ) .. ولعلك تعجب مثلي من الشهيد سيد قطب رحمه الله في كتابه:

( في ظلال القرآن )

حينما كان يفسر القرآن وإعجازه البلاغي والبياني من حيث جرس الكلمات وإيقاعها الموسيقي للتأثير في قلوب الناس .. وكيف أن هذا السحر القرآني قد أسر قلوب المؤمنين .. بل إن الكفار سحروا به وخروا سجداّ كما هو معروف في سبب نزول آخر سورة النجم ..!

إن اللغة العربية ( لغة القرآن ) هي اللغة الأكثر موسيقية من بين لغات العالم . ولذلك هي لغة شاعرية موسيقية .. أريد أن أبين أن هذا الكون يسير بإيقاع رتيب .. متناسق ومتناغم مع بعضه .. وكذا الإنسان يسير بإيقاع متناسق في وجدانه ومشاعره طبقاً لحركة الكون .. وأن الموسيقي والشاعرية جزء من كيانه .. وإنكار وجود هذه الموسيقى في وجدانه هي إنكار لجزء من ذاته .. وذكاءه الذي يظهر منذ طفولته ..

***

إن علماء التربية اليوم ينصحون بتعلم نظرية ( الذكاء المتعدد ) حتى نستطيع اكتشاف المواهب لدى أطفالنا .. لنرعاها وننميها وندفع بهم للذكاء الذي يتمتعون به ..

وإن من أخطاء الحياة ( وهذا عنوان لموضوع قادم ) .. أن يجهل كثير من الآباء أرقى نظريات التربية فيغفلون عن مواهب أطفالهم .. بل ربما هم من يغتال هذه المواهب ويقتلها في مهدها !

كثيراً من المبدعين في أي فن من الفنون كان السبب لنبوغهم شخص وقف على موهبته ورعاها حق رعايتها .. قد يكون هذا الشخص أباً أو أماً أو معلماً أو مربياً .. فلماذا لا يكون أنا وأنت .. !

تسلم ياطيب

ممتاز الى الامام

مشكور على الردالمميز والرئع