ستعجبون من هذا العنوان لكنه واقعي بكثرة وظهور قد يخفى لشدة قربه كما أنك إذا قربت الشيء إلى جانب عينيك لا تراه بوضوح.
أيها الأخوة: لقد نهى الله تعالى عن مؤسسية المعاصي في قوله «ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»، والإثم هو أثر المعصية وهو ما يكتب كنتيجة عنها، وهو الإثم الشخصي، أما العدوان فهو الاعتداء على الغير فردا، أو أسرة، أو جماعة، أو حزبا، أو شعبا.
فالإثم والعدوان محرمان بالذات تحريما استقلاليا وفي هذا النص «ولا تعاونوا» ينهى ربنا عن تحويل العمل الإثم الفردي والعدوان الظالم الفردي إلى مؤسسة تعاونية تجمع أفعالا وأقوالا تتكاثف وتصب في خدمة الآثام والمعاصي والاعتداء وحمايته وتكريسه والتقنين له.
قد يكون التعاون بشكل دولة فاسدة تديرها عصبة من الأثمة والمعتدين، وهي تشكل أعلى أنواع المؤسسية الرسمية المفسدة. هذه صورة جلية لمؤسسة المعصية، لمؤسسية التعاون على الإثم والعدوان. وهي أقبح وأوقح وآثم وأشد عدوانية من التعاون الفردي الساذج لأن الدولة إنما وجدت لدفع المآثم ورفع الظلامات عمن تديلهم. فإذا أصيب الشعب بغاشية من فساد السلطة وقع من الضرر ما لا يدفع لعدم وجود الدافع.
الرشوة أصبحت منظمة مستقلة، توزيع الكعكة أصبح تعاونيا لحماية عدم توقف عجلة سير حافلة الفساد، التعيينات، البعثات الدراسية، الإقطاعات، الاستثمار، كثير مما يدخل تحت هذه المفردات هو مفرز من هذه المؤسسية التعاونية الآثمة الباغية.
أيها الطيبون: سأجلب لكم صورا متعددة من الفقه الإسلامي منعها رؤساء الفقه وأطباؤه لما فيها من الصور البسيطة العادية في التعاون على الإثم والعدوان.
فمن ذلك أبدأ بمسألة الخبز واللحم التي ذكرها ابن قدامة في المغني، وهي لو أن رجلا له ضيافة «عزومة» ودعا فيها من يبادلهم قاموس الأخلاق، وسيء العادة وكان قد جهز على المائدة الشراب المسكر فذهب إلى أقرب خباز، وأقرب لحام، لشراء الخبز واللحم لهذه المائدة، لكن الخبر قد بلغ بائع اللحم والخبز عن صفة هذه الجلسة المهنية فهل يجوز لهما بيع اللحم والخبر للرجل؟ الجواب لا يجوز لأنه تعاون على الإثم والعدوان، نعم هذا ما أجاب به ابن قدامة المقدسي.
صورة أخرى: ذكر الإمام الرملي في نهاية المحتاج بشرح المنهاج حرمة بيع الطعام في رمضان من مسلم مكلف لكافر بالغ يظن أنه يأكله في نهار رمضان، لأن هذا تسبب في معصية الله وانتهاك حرماته.
صورة أخرى: نص الإمام ابن رشد في المقدمات والممهدات على حرمة بيع السلاح للكفار وكذا في الفتنة لأهل الفتنة وحرمة بيع الحديد لهم وبيع النحاس لأنهم يصنعون منها الطبول الحربية المستعملة في إرهابنا وحرمة بيع البز لهم، لاستعماله رايات حربية وملابس عسكرية، هكذا معنى كلامه.
قلت: كيف لو رأى البيع والشراء بالأمة بحالها فبماذا سيفتي رحمه الله!؟ نعم إنها تجارة بأمة، بقضاياها الوطنية في سوق السمسرة العالمي المسمى بالأمم المتحدة، ومجلس الأمن ومؤسسات النخاسة العربية التي تدير هذه المسماة حكومات. دعوني أعود إلى اللقطات التصويرية التراثية الفقهية، قال الأئمة من مختلف المذاهب: تحرم إجارة البيت لمن سيستعمله لخمارة أو دعارة، ونحو ذلك لأنه تعاون على الآثام.
وفي كشاف القناع: حرمة البيع وقت نداء الجمعة الثاني ولو كان المشتري صبيا فالإثم على البائع لأنه وسيلة إلى ضياع الطاعة.
ومما قد تعجبون منه مسألة «الزرقيف» وهي المسماة أيضا بالفتاتير في تعز والحديدة وهي لعبة للأطفال تقوم على أساس الكسب والقمار. أفتى الإمام أحمد بن حنبل بحرمة بيعها للأطفال لأنهم يلعبون بها قمارا، نقله عنه ابن عقيل وعنه ابن قدامه، فياللورع التعليمي والتربوي لا يحب الإمام أحمد أن يتربى الطفل على اعتياد القمار ولعبه.
أيها القراء الأحباب الكرام.. هذه النظرة المآلية للطفولة هامة جدا، لأنا ننحن من نصنع الحال والمآل حينما نسقي شجرة الطفولة بمياه الخلق التنموي المثمر.
هذه اللفتة التربوية الهامة من الإمام أحمد تدل على ما للحظة الآنية في حياة الطفل من أثر مستقبلي هام.
أيها الإخوة: هذه صور مبسطة مما ذكره الفقهاء ورسموها من واقعهم آنذاك وجعلوا ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، أما نحن اليوم فماذا نوثق أن كثيرا من التصرفات التي نراها ونسمعها ونقرأها من صور الإجرام والآثام تحولت إلى مؤسسة مذهلة مريعة وقد تكون رسمية بشحمها ولحمها كما هو الحال في البنوك الربوية الرسمية والتي يعتبر العمل فيها وإدارتها من أكبر الكبائر المحرمة ولذلك من أودع فيها مالا، أو حوالة، بربح أو بدون ربح، أو مستثمر، أو توظف حارسا، أو مراسلا، أو فراشا، فهو آثم لأنه وضع يده في يد مؤسسة تحارب الله ورسوله.
أما من عمل في التوثيق المحاسبي أو الإدارة المركزية أو الفرعية، فهو داخل في لعن كاتب الربا وشاهديه وكذا من عمل في صندوق الصرف فهو ملعون موكل ربا كما في الحديث.
ولذلك يحرم ما تسمى بعقود الصيانة مع هذه المؤسسات، صيانة الحواسيب أو الكهرباء لأنه صيانة لما يحفظ ويدير استمرارية المعصية.
ومن الصور المؤسفة لمؤسسية المعصية، شركات الترويج والدعاية التي تنشر الصور الماجنة وتعلن عن الآثام وتروج لها.
وكذلك الفنادق والمراقص والملاهي التي صرح لها أو لم يصرح وفيها ارتكاب ما حرم الشرع من فواحش وخمور ونحو ذلك كلها من الصور المعلنة المتعاونة على الآثام.
ومن ذلك عصابات السرقة المنظمة، وقطاع الطرق وعصابات النهب الرسمي باسم الدولة، إساءة لها وتحت ستارها كذبا في جولات المرور، والنقاط والأسواق فمن عاونهم أو تعاون معهم أو سكت فهو شريك في المعصية، وإلى لقاء آخر
د. فضل عبد الله مراد استاذ مقاصد الشريعة وأصول الفقه وقواعده بجامعة الإيمان
منقول
المشاركات
